samedi 28 avril 2012

العَلَم المفدى والبيرق الخفاق



يُطلب العلم لغة لهداية الضال، فيُنصب في الفلاة وحذو الطرق للاستدلال. ويحيل تعريفا على الجبل لأن العين لا تخطئه، تماما مثل الراية وهي رسم الثوب المعقود على الرمح الموسُوم باللواء والبيرق والسنجق والعُقاب والرفرف والخفاق والرنك، ومدلوله عند الفرس العلامة والسمة والوسام الحامل للإمارة ألوانا وصورا.
أما لفظة Étendard الفرنسية فتحيل في أصولها اللغوية على تداخل الانتصاب والثبات stand مع صلابة وشدة Hard. لذلك ألمع العارفون بمعاني التفكيك، كما المحللون النفسانيون إلى الأبعاد السيكولوجية التي تحملها الراية الجامعة بين صلابة الوتد ورفرفة الخفاق السالبة للخلد الدافعة إلى الإباء وعدم التهيب عند الإقدام على الردى.  
أما عِلْم الرايات vexillologie فهو تخصّص محدث موازي أو متناهج مع التاريخ science connexe، تماما مثل علم الشعارات Héraldique وعلم الأختام Sphragistique  
يرجع أصل الأعلام إلى مصر القديمة حتى وإن لم تتخذ مدلولها الدقيق إلا مع عصر النهضة حال بروز الكيانات السياسية المركزية خلال القرن السادس عشر. فقد أشار هوميروس إلى أن المراكب المصرية المبحرة في النيل وعلى السواحل القريبة قبل أربعة آلاف عام كانت تحمل علامات منسوجة من القماش تحدّد تبعيتها على صواريها. كما عُثر على رايات شبيهة لدى البابليين والأشوريين وحضارات بلاد الشام ترمُز في معظمها إلى القوة وتطلب الأمجاد والغزو. والظن أن الإغريق والفينيقيين قد استخدموا هم أيضا الأعلام لتبادل الإشارات والمعلومات البحرية والدلالة على موقع القواد، بينما استخدمها الرومان ترميزا لفيالقهم البرية والبحرية.
ويعود استخدم العرب للرايات والألوية والبنود المختلفة الأشكال والألوان إلى مراحل سابقة لانتشار الإسلام، فقد جرت عادتهم على ربط البيارق على رماحهم وحملها من قبل الفرسان عند القتال. إذ كانوا يسمون راية الحرب لواءً، وهي عبارة عن شقة ثوب تُلوى وتُشد إلى عود الرمح يُعبر عن بعضها بالعصائب، لأنها تُعصب على رأس الرمح من أعلاه.
فقد تواتر أن النبي كان يعقد لأمراء سراياه الرايات عند بعثها، مختصّا براية بيضاء ينشرها في غزواته، وراية سوداء وُسمت بالعقاب حملها يوم بدر ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب.
ومن شعارات الخلافة في الإسلام المبكر الأعلام والخُلَعُ. وكان شعار بني أمية الأبيض من الألوان، أما بنو العباس فشعارهم السواد، وعلمهم أسود كتب عليه بالبياض اسم الخليفة. كما اتخذ الفاطميون شعارات للملك مختصّة بالمواكب منها التاج والقضيب والمظلة والأعلام. وكان للحفصيين في تونس علم أبيض يسمى المنصور يحمل في المواكب ومعه سبعة أعلام مختلفة الألوان إلى جانبيه، بينما انفردت كل قبيلة بعلمها الذي حمل شتى العبارات الحماسية  لا إله إلا الله أو الملك لله أو نصر من الله وفتح قريب...
بدءاً من القرن الثاني عشر استخدمت الأعلام على نطاق واسع، وصار لكل شخص بارز علم وشعار يحيل على منزلته الاجتماعية وعلى منطقة نفوذه أو إقطاعه. وبدأت أوروبا باتخاذ الأعلام رموزاً للمدن وللدولة عامة، ثم ما لبثت أن ظهرت أعلام الأوطان في مطالع القرن السادس عشر تزامنا مع انطلاق الأوروبيين في مغامرة الإبحار البعيد على سبيل التجارة والاستكشاف والمواجهة والقرصنة. واستحوذت الأعلام على مكانة عاطفية كبيرة حال تلبّس مفهوم العلم بالمدلول السياسي للأمة Nation. فمالت الحركات الثورية عندها إلى استخدام اللون الأحمر، بينما تم الترميز للحكم الملكي باللون الأبيض والأزرق والأخضر، وفقدت الشعارات الرامزة إلى قوة السلطة كالأسد والنسر وغيرها مكانتها تدريجياً بدءاً من القرن الثامن عشر، فأضحى من اليسير عندها تتبع التطوّر السياسي للأمم على مر السنين عبر دراسة التحولات التي طالت أعلامها.
تحمل الأعلام حاضرا شحنة نفسية جارفة، فهي التعبير عن الكينونة والانتماء وحبل وصل الجماعة ومصدر فخرها، لذلك تحرص على إعلائه زمن الاحتفال كما حال الشدة والهَبَّة في وجه الغاصبين والعابثين ودعاة التفرقة والجانحين إلى الخنوع القابلين بالذل والمهانة. ويقدّر علم النفس التحليلي منذ أواسط القرن الماضي حضور ترتيب هرمي في عملية التدرج باتجاه تلبية الحاجيات الأساسية، حيث يتعين على الفرد ارتقاء مختلف درجات سلم الحاجات الفيزيولوجية (كالمأكل والمشرب والتنفس والنوم) والأمنية (كسلامة الجسم وضمان الشغل والصحة وحق التملك) والانتماء العاطفي (من خلال الإحساس بالحب والصداقة والحق في الحياة الشخصية والعائلية والجنسيّة) والاعتزاز بالذات ( عبر الثقة بالنفس واحترام الآخرين المفضي إلى احترام الذات). أما الغرض الأسمى من كل ذلك فيتمثل في تحقيق الذات والشعور بالاكتمال (من خلال تقصي الفضيلة لذاتها وإدراك معنى الجمال بتصوّر أنجع الطرق الكفيلة بحلّ مختلف المعضلات).
يشغل العلم المستوى الثالث ضمن درجات هذا السلم، حيث تنصهر ضمنه معاني حب الأوطان والشعور بوحدة المصير، الأمر الذي يحول دون الإحساس بالإقصاء والانخراط ضمن الفعل الاجتماعي مع تقاسم مسؤوليته سلبا وإيجابا مع الآخرين عبر الاشتراك في العادات واقتسام الموروث لغة ونشيدا وعلما.
يكفي أن يلحظ الفرد منّا خافق بلاده فوق المباني العامة وفي الشوارع والساحات والملاعب وعند واجهات النزل أو عند أعلى مباني السفارات وفي باحات المنظمات الأممية، حتى يشحذ فيه النظر إلى الأغر نخوة الشعور بالانتساب والاشتياق إلى أحضان الأوطان حيث السكينة وسعادة اللقاء بالأحبّة والأقربين.   

2 commentaires:

  1. Sidi Lotfi, encore une fois vous présentez un talent exceptionnel dans "l’archéologie du savoir". Dans cet article, vous êtes non seulement un éminent historien, mais aussi un sociologue et psychanalyste. J'espère arrivé un jour à votre niveau. En attendant, ce jour-ci, je dois répéter ce qui a été dis part René Descartes "Je pense, donc je suis".

    RépondreSupprimer
  2. Merci pour vos compléments. Je suis moi aussi de votre avis, puisque penser en vient pour vous à exister.
    Avec mes encouragements et toute ma sympathie.

    RépondreSupprimer