lundi 18 juin 2012

التطرّف الديني أو "الحرب من خارج المدينة"







لعله من المفيد قبل التوقف عند مختلف العناصر الناظمة لملف التطرف الديني زمن الانتقال الديمقراطي تونسيا، وتوافقا مع عنوان هذه العجالة الوصفية التي تعتبر "الحرب من خارج المدينة" خطا أحمرا، أن نتملى بأوسع قدر من حرية التأويل والتوليد هذه المقتطفات الموفية بالغرض مما ورد ضمن "الخطبة التأبينية" المشهورة لقاضي أثينا وزعيم الديمقراطية بها "بركليس" الذي تعني ترجمة اسمه للغة الضاد "المستنير":    
"لسنا بحاجة أن نحسد أجوارنا على التشريعات التي تقودهم، فالدستور الذي ينظم حياتنا هو أرقى من مختلف دساتيرهم. فبدلا من تقليد الشعوب الأخرى فيما تنجزه آثرنا أن نتحول إلى مثل يُحتذى من قبل جميعها...نحن نحكم أنفسنا في كنف الحرية التي ينعكس جوّها إيجابيا على علاقاتنا اليومية، فيلغي كل إحساس بالخشية أو الخوف. وإذا ظهرت على البعض من أجوارنا تصرفات لا تنسجم في روحها مع تلك التي تقودنا، فإن ما نبديه من سعة تفهّم يسمح لنا بالتجاوز وغض الطرف عوضا عن إبداء علامات الاستعظام، تلك التي وإن لا ينجم عنها أي ضرر مادي لغيرنا، فإنها تبقى مع ذلك غير مستساغة من قبلنا.
وإذا ما أبدينا قدرا كبيرا من التسامح في علاقتنا الشخصية، فإن تعاملنا مع بعضنا البعض على الساحة العامة لا يخلو هو ذاته من تلك الخصلة. فالإجلال الذي نكنّه للقانون هو ما يدفعنا إلى الالتزام الكامل باحترام النظام وطاعة الأحكام...مع الالتزام بجميع القوانين وخاصة تلك التي تحمي من يقعون ضحية الظلم أو البغي، والتمسك بجميع الأعراف المجمع حول جدواها، تلك التي لا يجني من يعمد إلى انتهاكها من قبلنا سوى مشاعر الاحتقار والازدراء...في مدينتنا تجد النفوس كلما أنهكها الكلل مناسبات للترويح واستعادة العافية...فنفسح للذوق مجالا رحبا ونؤثث لحياتنا اليومية إطارا مرحا جذابا يجلي عن النفوس الظلمة والكآبة...نحن نُقدّر الجمال دون إسراف في البذخ ونتذوق نتاج الفكر دون سقوط في الميوعة. نعوّل على ثروتنا البشرية وإمكانياتنا المادية دون تفاخر بما حققناه. لا يخجلنا الاعتراف بضيق ما بيدنا بقدر ما نشعر بالضآلة عندما لا نحرّك ساكنا للخروج من تلك الوضعية...بمستطاع من يساهمون في تسيير مدينتنا أن يهتموا بإدارة شؤونهم الخاصة، في حين بإمكان أولئك الذين تستغرقهم اهتماماتهم المهنية بالكامل الاطلاع عن كثب على الكيفية التي يدار بها الشأن العام عندنا. ولا أظن أن هناك من يرى على منوالنا أن من لا تستهويه الشواغل السياسية ولا يشارك في الشأن العام لا يمكن اعتباره مواطنا وديعا، بل يحق أن يُعتبر مواطنا عديم الجدوى."
ذاك ما نقله توقديدس (460 - 400) مؤرخ حرب البيلوبونيز حول مدلول الديمقراطية، وفقا ما كرسه بانيها طيلة تسع سنوات بتمامها وكمالها، تحولت خلالها أثينا إلى إمبراطورية تجارية وعسكرية مهابة الجانب.
"الحرب خارج المدينة" لا تعني سوى المناكفة العنيفة عبر رفض الحياة الجماعية وفقا لما يقره قانون المدينة النابذ للعنف الموكول بشكل مطلق بيد المؤسسات الشرعية للدولة. وهو أمر لا يدخل بالمرة ضمن قناعات التيارات السلفية الإسلامية بجميع تياراتها ومشاربها الفكرية. لكن لنتساءل أولا حول المدلول الاصطلاحي للسلفية؟ وحول سياق حضورها ضمن المشهد السياسي العربي عامة والتونسي فيما يخصنا؟ ثم حول علاقة المسار الديمقراطي الوليد تونسيا بمأزق معالجة مختلف الأخطار المترتبة عن التطرف الديني أخيرا؟

السلفية المدلول الاصطلاحي:
السلفية لفظة عربية، فالسين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق. فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: "السلف الجماعة المتقدمون في السير أو في السنّ أو في الفضل أو في الموت. أما السلفي فهو المنسوب أو المنتسب للسلف، فقد وردت كلمة سلف في القرآن بمعنى السبق والتقدم في الزمن، مصداقا لما جاء في سورة الزخرف (الآية 56) "فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ"، ومدلول ذلك وفقا ما أورده الشُراحّ جعلناهم متقدمين ليتّعظ بهم الآخرون.
على أن النص القرآني لم يقتصر على مدلول واحد فقد ورد ضمن سورة الأنفال (الآية 38): "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أي يغفر الله لهم ما تقدم ومضى من الذنوب. نوّع القرآن الدلالات وفقا للسياق على غرار ما جاء في الآية 95 من سورة المائدة "عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ"، أو ما ورد ضمن الآية 24 من سورة الحاقة "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ"، أي بما قدمتم من جليل الأعمال في الحياة الدنيا.
ويطلق لفظ السلف شرعا على الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام العدول المتفق على إمامتهم وتضلّعهم في علوم الدين، كالأئمة الأربعة وغيرهم. لأن السلف يُطلق بالأصالة على القرون الثلاثة المفضّلة بنص الحديث "إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون". فهم بهذا المعنى الصحابة والتابعون وتابعيهم، ومن سلك مسلكهم في الدين أصولاً وفروعاً ومنهجا، مصداقا لما ورد بالآية 100 من سورة التوبة "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي من تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم". لذلك اعتبر القدح في أولئك قدحا في الدين، بل قدحاً في حكمة الله في اختيار نبّيه.
فالسلف بهذا المعنى هم أهل القرون الأولى لأنها الأقرب إلى تمثيل الإسلام فهما وإيمانا وسلوكا والتزاما. اعتبارا لأن السلفيّة رجوع إلى ما كان عليه السلف الأول في فهم الدين عقيدةً وشريعةً وسلوكا، حتى وإن تضمنت كلمة السلف معاني السلف زمناً والسلف معتقداً، مما يدرج السائرين على منهاج السلف حاضرا ضمن زمرة من سبقهم من الصحابة والتابعين وتابعوا التابعين. لذلك يعتبر المنتسبون إلى هذا التيار أن اختزال السلفية في مدلولها الزمني غير ذي معنى، اعتبارا لأن السلفية تُطلق على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في عصر الإسلام الأول والتزموا بما جاء به الكتاب وأقرته السنة بعد ذلك، وكذا الأمر سواء بسواء على الذين اتبعوهم بإحسان باعتبارهم جماعة لا مرحلة زمنية، مصداق للحديث المشهور حول افتراق الأمة ووصف الفِرقة الناجية بإتباع منهج السلف، مما ينهض حجة على أن هناك جماعة سلفيّة سابقة، وجماعة سلفيّة متأخرة تتّبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها جميعها توعّدها ذات الحديث صراحا بالنار. ومحصله فأن السلفية على ثلاثة:
-       سلفية زمانية: وتطلق على المجموعة المتقدمة من الأمة الإسلامية (الصحابة وتابعيهم)
-       سلفية منهجية: تعتبر المتقدمين على منهج وفَهم للإسلام صحيحين، وأن ما طرأ من مفاهيم جديدة مأتاه دخول الأعاجم في الإسلام والقبول بتأويلات الفلسفة، لذلك فإن السلفية علامة التزام بنهج الصحابة وتابعيهم في فهم الإسلام، فكل مَن التزم بهذا المنهج سلفيّ مهما تقدمت العصور، لأن السلفية ليست حزبا دينيّا أو سياسيا، إنما صدق انتماء لمنهج السلف الصالح.
-       سلفية مضمون: وهو نهج يعتبر أن السلفية التزام بما أثمرته قراءة النصوص وفهمها من مواقف تتعلق بقضايا العقيدة والقدر ونحوهما. فالدعوة السلفية تعني الرجوع إلى هدي السلف والعودة بالعقيدة الإسلامية إلى أصول صافية تحيل على مرحلة ما قبل نشوء الخلاف، تنقية للتوحيد من الشرك، وأخذا بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح في جميع مناحي الحياة، وتصدّيا لجميع التيارات المنحرفة عن الفهم الدقيق للدين، مما يحيل على إدراك طُهري، يشدد على الرجوع إلى المنابع الأولى تنقية للإسلام من كل البدع والانحرافات، ودعوة موافقة لكل زمان على الدوام لأنها مخلصة تتشوّف إلى تجديد أمر التديّن باستمرار، مصداقا لما جاء في الحديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها".
ولا تربط السلفيّة فهم الإسلام بفهم شخص حتى وإن كان من أئمتها المشهورين القدمى منهم على غرار "ابن تيمية" أو "ابن قيم الجوزية" أو "ابن عبد الوهاب"، والمحدثين على غرار "عبد العزيز بن باز" ،أو "محمد صالح العثيمين" ،أو "صالح الفوزان"، أو "محمد ناصر الدين الألباني"، وغيرهم، لأن مقصدها هو الـمُــــحافظة على معتقد السلف وعلى فهمهم للكتاب والسنة ومنهجهم السلوكي الذي لم يعتريه، بزعمهم طبعا، أي تحريف. وبالجملة يستقيم القول بأن السلفية دوران مع الكتاب والسنة حيث دارا، والتعبّد بإتباع النبي على فهم الصحابة للكتاب والسنة، لأن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا هو. 

مركبات المشهد السلفي التونسي:
        تنقسم التيارات السلفية في تونس إلى توجهين اثنين هما السلفية الجهادية التي فرضت نفسها على المشهد السياسي عربيا وإسلامية خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي على خلفية المواجهات المسلحة مع الأنظمة السورية والمصرية والجزائرية مباشرة بعد استكمال تجربته الأفغانية.  وما من شك في ارتباط هذا التيار الجهادي العنيف (أنصار الشريعة) بتنظيم القاعدة فهو يدعو صراحا إلى مجافاة الأنظمة القائمة لعدم شرعيتها، ويعتبر أن عملية إزالتها لا يمكن أن تتم إلا باستعمال القوة. وبالفعل فقد كانت السلفية الجهادية وراء تدبير عدة عمليات عنيفة في تونس أبرزها استهداف بيعة اليهود بالغريبة في جزيرة جربة سنة 2003 التي أسفرت على سقوط ما لا يقل على 21 قتيلا، والهجوم على مدينة سليمان في نهاية سنة 2006 وبداية السنة الموالية الذي ذهب ضحيته ما لا يقل عن 14 قتيلا. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن السلفيين الجهاديين التونسيين جزء من شبكة دولة متّصلة بتنظيم القاعدة تُدعى "أنصار الشريعة" وتتوسل في فرض نفسها على المجتمع بالقوة، أسلوب السيطرة على قرى أو مدن صغيرة الحجم قصد تطبيق الشريعة على غرار ما جد بالبلاد التونسية سواء بمنزل بورقيبة سنة 2011  أو بسجنان في بدية السنة الحالية.
أما التيار الثاني فتمثله "السلفية العلمية" ويدعو إلى إسلام غير سياسي ومحافظ يجافي التوسل بالعنف للوصول إلى أهدافه، مقتربا في أطاريحه إلى ما ينادي به حزب التحرير الذي يشكل الجناح السياسي للتيار السلفي الجهادي الذي كنا بصدد التعريف به. ويعتبر مؤسس حزب التحرير محمد تقي الدين النبهاني (1909 - 1977) وهو شيخ أزهري التكوين من أصول فلسطينية ركز أول خلية بالأردن سنة 1952، المنظّر الحقيقي لهذا التيار. فقد تم التعويل في تكوين المنخرطين الجدد في هذا التيار على مؤلفاته التي نذكر من بينها "نظام الإسلام" و"النظام الاقتصادي في الإسلام" و"نظام الحكم في الإسلام" و"النظام الاجتماعي في الإسلام" و"الدولة الإسلامية"...
وتدور مختلف هذه المؤلفات حول مفهوم "الدولة الإسلامية في زمن الصحوة" وهو مدلول يؤمن بضرورة إقامة دولة إسلامية تستأنف تنفيذ نظم الإسلام وتحمل دعوته إلى العالم في دورة جديدة من دورات تقدّم الإسلام وازدهاره". ويرفض السلفيون الديمقراطية مسْتعدين صراحة الغرب، مشددين على تناقض الديمقراطية مع الإسلام بشكل حاسم وتام اعتبارا لطابعها الوضعي وفصلها للدين عن الحياة وربطها للسيادة بالشعب، والحال أن الإسلام يعيدها في تصورهم لله ويربط السلطان أو الحكم بالأمة التي تَرْبِطُ عنقها بالبيعة في شخص الخليفة. ويعتبر هؤلاء أن فكرة الحريات العامة والشخصية (كحرية الاعتقاد، والفكر والتملّك) هي "من أشد ما بُليت به الإنسانية...لأنها مصدر تدحرج المجتمعات الديمقراطية الغربية إلى أحطّ من مستوى قطعان البهائم [كذا]".  
ويتوفر التيار السلفي غير العنيف وبالتحديد حزب التحرير على عدة فروع في العديد من البلدان العربية (سوريا 1954، لبنان 1959، العراق منتصف الخمسينات، مصر 1974 ). كما ينتشر في العديد من بلدان العالم وخاصة بين الأقليات المسلمة. وقد بدأ انتشار هذا التيار مغربا في بداية الثمانينات، حيث تأسس فرع لحزب التحرير في تونس سنة 1983 بفضل العمل التعبوي الذي قام به "محمد فاضل شطارة" المنتمي إلى الحزب لما كان طالبا في جامعة كولونيا الألمانية. وترأس الفرع حال تأسيسه "محمد الجربي" وأصدر الحزب دورية تحمل عنوان "الخلافة" تُوزع في الجوامع والمساجد للتعريف بمبادئ الحزب وأفكاره. حاول حزب التحرير اختراق المؤسسة العسكرية بعد أشهر قليلة من تأسيسه توافقا مع توجهاته الرافضة للدولة الحاكمة، متسببا في محاكمة العديد من الضباط الصغار في قاعدة سيدي ثابت الجوية وقاعدة الخروبة قرب بنزرت. وتواصلت المحاكمات والملاحقات ضد العناصر الناشطة في حزب التحرير طوال التسعينات وخلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة (1990 – 1991 و 2003 – 2006 و2007 – 2008 و 2008 – 2009 ). ولا يفتأ هذا الحزب بعد حصول انتخابات المجلس التأسيسي بتونس ووفق ما صرح به "رضا بالحاج" الناطق الرسمي باسمه وأمينه العام "عبد المجيد حبيبي" على توضيح خطه السياسي القائم على مبدأ السلطان للأمة ومعقولية نظام الخلافة وأفضلية الشرع على الدستور الوضعي وأولية الإسلام على جميع الحلول لأنه منهج حياة متكامل يفي بحاجيات مجتمع متوازن"، علما أن للحزب دستوره المقترح على أعضاء التأسيسي وأن الديمقراطية  في تصوره قضية مفتعلة لا يجوز الانشغال بها.      
الديمقراطية الوليدة ومأزق معالجة الظاهرة السلفية :
تكمن خطورة المد السلفي في ممارسة العنف الممنهج المبني على ضرورة إجبار الأكثرية على اعتناق تصوراتهم والاحتكام إلى توجهاتهم باعتبارها مقدسة لا تحتمل المخالفة يسوغ مجابهة رافضيه باستعمال العنف الفكري واللفظي والمادي. على أن "الحداثة المعلنة  modernisme autoproclamé " التي تصدر عنها مختلف الحساسيات والتيارات والعائلات السياسية الموسومة بالتقدّمية، سواء تلك التي اختارت الانضمام إلى الحكم أو تلك الموجودة في المعارضة، لم تنتبه بعد إلى ضرورة تجذير مدلول الدولة المدنيّة بالسعي إلى الفصل بين الفضاء العام والانتماء العقائدي تجسيما لمدلول الحداثة، وتواصلا مع الإرث الإصلاحي التونسي بمختلف حساسياته أو تعبيراته، علما أن الهدف من جميع ذلك هو القدرة على التعبير على الذات بشكل دقيق ومفارق قياسا للطرح الفكري الذي تصدر عنه مختلف التيارات الموسومة بالمحافظة بما في ذلك حزب النهضة الحاكم نفسه.
وليس أبلغ تعبيرا عن ذلك الحرج الحقيقي من التعويم الذي يتسم به خطابها حاضرا، مما حوّله إلى مظنة سهلة للاستهداف والتهجم على جميع الداعين إلى انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ بروز التجربة الإصلاحية عند أواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل. فشعارات الثورة المتصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط تماما في مسار الحداثة. إلا أن المستغرب حقّا أن كل محاولة للدفاع عن مكاسب الدولة المدنية أصبحت تـُجَابه حاضرا بمزيد من التحفظ وتؤول من قبل شرائح واسعة في المجتمع التونسي باتجاه مدلول ضيق يحيل على نزوع إلى الانطواء والمحافظة !
ما من شك في حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم الاستنكاف من وصم دعاته بالزنادقة، خاصة بعد عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية بقوة. فالسمة الطاغية على الخطاب الفكري الانتقائي للتيارات السياسية الدينية هي ضعف المعرفة بمصادر إصلاح الفكر الديني نفسها، فالإشادة بشخصية مثل محمد الطاهر بن عاشور، وهو عالم تقليدي بالأساس، غالبا ما تتم من خلال التعتيم على التوجهات المتفتحة لابنه الفاضل، بل واعتبار أبناء هذا الأخير (سناء وعياض) أبناء غير شرعيين للعائلة، شوّهوا إرثها ولم يعودوا مؤهلين للنطق باسمها.
وهكذا فإن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعين أن ينهل - بزعم التيارات المحافظة بما في ذلك حزب النهضة نفسه- من توجهات مفكري السلف من أئمة السنة على غرار بن قيم الجوزية الذي يشكّل يوسف القرضاوي وابن باز تواصلا حقيقيا معه على حد ما صرّح به زعيم النهضة ومنّظرها راشد الغنوشي الداعي إلى إقرار مبدأ "التدافع" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة الدولة من الأسفل"، وهو أمر يتعارض مع حيادها ويكشف عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة في التجاذبات السياسية غير المكترث مطلقا بفصل الدين عن السياسة تحقيقا لحيادها.
على أن حقيقة التأثير المسلّط من قبل النموذج الفكري الفرنسي على العقل والذائقة التحديثية التونسية، يدفع من جانبه إلى التساؤل عن حضور نزوع من قبل العائلات الفكرية والسياسية الحداثية التونسية نحو وضعية اتكال بل وحضانة أسهمت في سجنها ضمن تصوّرات أحادية تجعل من عملية إعادة تملّك القيم الكونية تونسيا مغامرة عسيرة غير مأمونة العواقب، لاسيما وأن تنوّع الحداثات الغربية بروافدها الأنحلوساكسونية والإيطالية يسمح بتحديد فارق واقعي بين التقليد والمحافظة ولا يمثل في حق السلفية نفسها قطيعة مع التاريخ، بمقدر ما يجسّم نزوعا باتجاه حالة من الإسقاط يصرّ أصحابها على ضرورة تماثل الواقع مع ماض مثالي متوهَّم. فالعامل الحاسم ضمن نتائج انتخابات المجلس التأسيسي في 23 من أكتوبر قد تمثل في حضور كفاية في التواصل لدى الأطراف المحافظة، وما الفارق الذي أحدثه تيار العريضة الشعبية من خلال تشغيل آليات بسيطة لعبت على أوتار شعبوية تحيل على رفض التعالي ومقاومة ضرب البداوة وتهميش الفئات الفقيرة بدعوى "الحُقْرة"، قياسا لضعف فاعلية توظيف ذات المطالب المتصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن من قبل مناضلي "القطب الحداثي" مثلا وخاصة في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبدواخل البلاد أيضا، إلا دليلا مهما على انغراس ذلك الفارق بين التقليد والمحافظة عميقا في الذهنيات وترسخه في الذاكرة الجماعية في آن.
والحقيقة أن أساليب التفكير داخل المجتمع التونسي وفقا ما أثبتته البحوث الميدانية لا زالت تعوّل على نظام الثنائيات (متدين – ملحد – مسلم – كافر )، فضلا عن الطبيعة المفتوحة لتلك الأساليب التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدونية مع ذاته وواقعة المحلي. ويمكن الاستدلال على ذلك بالحالة المصرية التي حقّق داخلها "حزب النور" القريب من الطرح الأصولي الوهابي نجاحا كبيرا في الانتخابات لاعتبارات ديمغرافية تتصل بوجود قرابة 9 ملايين مصري بالسعودية وبلدان الخليج، علما أن الإسلام الوهابي السعودي المنتشر ببلدان الخليج والذي يصدر عنه فكر النهضة على الحقيقة، إسلام قريب من الإسلام الأمريكي لا يعير أهمية وفي المقام الأول إلا للسيطرة على الثروة والحفاظ على المصالح.
ما من شك في دعم التيارات والحساسيات السياسية والدينية المحافظة لبعضها البعض (السلفية – التحرير - جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجمعية الوسطية – الجناح القيادي التأسيسي الواقع على يمين حزب النهضة...) وذلك عبر الزج بالمساجد في عملية التعبئة السياسية على الرغم من دعوى الحكومة الحالية النأي بنفسها عن ذلك.
غير أن المحتمع المدني التونسي يمتلك آليات قوية للمقاومة، بالرغم من تشتت قواه التقدمية التي يأتي الاتحاد العام التونسي للشغل في مقدمتها، وافتقاد المشهد السياسي التونسي عامة لحدّ معقول من التوازن السياسي. فالبيّن أنه بمجرد تحرّك مكونات المجتمع المدني والتحاق الاتحاد بها تتراجع حركة النهضة فتشد رسن جناحها المتشدّد المتورّط موضوعيا مع السلفيين. هذا ما إذا اعتبرنا أن مختلف تلك المركّبات المكوّنة للجسم المحافظ تونسيا لم تصل بعد إلى مرحلة تقاسم الأدوار.
والمهم أن "أداء النهضة الاستحواذي" يتعارض كليا مع مبادئ الثورة، بل ويعصف باستقرار الدولة نفسها، وهو ما أومأ إليه تحديدا الخطاب الحازم لوزير الداخلية، الذي جنّب "مرشد النهضة" إراقة ماء الوجه في مغالطة "قصر العبدلية"، من خلال النداء إلى التظاهر دفاعا عن المقدسات، تفاديا للمسائلة بخصوص ورقة امتحان الحكومة التي تستدعي مراجعة سريعة وفي العمق! مع الالتزام مستقبلا بمراقبة مواطن العبادة ريثما تبت الدولة في طبيعة سياستها الدينية التي يتوجب أن تنجح في صرف الشباب عن شباك العنف وتجاوز القانون بجميع أشكاله، وهو تحدي التحديات تونسيا. 


          

1 commentaire:

  1. C'est toujours un grand plaisir des lire une tel réflexion qui cache un grand savant. En effet, l'analyse immédiate de la société tunisienne permettra de mettre en pleine lumière deux cultures contradictoires. La première est celle des modernistes et des progressistes, tandis que la seconde est celles des islamistes. Certes, la patrie tunisienne a nourri les "deux écoles" par son mode de vie et par sa tendance d'Islam Malikite Maghrébin. Mais il faut constater que pour la masse, ces deux "ways of life" ne sont appréhendée que d'une manière sentimentale et mystique, tout en oublions leurs sens historique, philosophique et sociologique. Par ailleurs, la grande masse pèse sur les choix stratégique des dirigeants, ce qui complexe les analyses de certaines décisions et durcis la lecture de la carte politique !
    Historiquement, c'est surtout le problème de la raison et de son aptitude à accéder au "vrai" qui sera le fer de lance qui a guidé les cités-états italiennes du 13ème et du 14ème siècle à la renaissance qui a permit de lancer le principe "Unité du vrai et diversité des voies". Actuellement, en Tunisie (comme en Egypte) on peut remarquer que le discours politico-culturelle ou politico-sociale des partis islamistes a un réel problème avec la modernité et ses différents acquis tel que la démocratie, les droits de l'homme, l’émancipation de la femme, l'Etat de droit et l'individualisme....(Etc.) ce qui oblige les forces progressistes du pays à faire un effort d'inventivité au niveau du discours pour traduire le projet réformiste et humaniste tunisien en un fait réel.

    RépondreSupprimer