dimanche 3 juin 2012

تونس العثمانية لعبد الحميد هنية: سؤال الدولة الحديثة


  


        صدر في شهر جانفي من السنة الحالية وعن دار النشر "تبر الزمان" ومخبر دراسات مغاربية كتاب جديد يحمل عنوان "تونس العثمانية بناء الدولة والمجال"، وهو باكورة سلسلة جديدة تنخرط ضمن مشروع معلن هدفه تقديم قراءة متوازنة لمختلف المراحل والأحداث التي مرّ بها تاريخ التونسيين بوصفهم"أبطال وصناّع ومنتجين للتاريخ"، تحمل عنوان "الذاكرة التاريخية للبلاد التونسية". وإذ نشدّ على يد المقدمين على هذه المبادرة في زمن عفت فيه جلّ دور النشر الخاصة أو تكاد على الدخول في هكذا مغامرة، فإننا نسوق إيماء وتفاديا للخلط ملاحظة بسيطة مضمونها حضور فارق دقيق بين الذاكرة - وهي وفقا لتعريف "موريس هلفاكسMaurice Halbwachs"- محصّلة حيّة منغرسة في الحاضر ومتوارثة بين أحياء معاصرين، والتاريخ بوصفه نتاج لبحث المؤرخ وتمحيصه. لذلك بقدر ما يصدُق الحديث عن الطابع الجماعي للذاكرة، بقدر ما يكون عاريا عن كل صحة الخلط بين الذاكرة والتاريخ. فلا وجود لذاكرة تاريخية للبلاد التونسية على الحقيقة، ما هو موجود هو كتابة للتاريخ وضعها أولئك الذين انشغلوا أو اختصّوا - بعد تلاشي الذاكرة الحيّة وانقطاعها بالكامل- بتسجيل الأخبار والوقائع وتدبّرها.
يتضمن الكتاب 274 صفحة وينقسم إلى أربعة أبواب وتسعة فصول تمحورت حول إشكالية أساسية هي إنجاز مقاربة سياقية لميلاد الدولة الترابية الممركزة في البلاد التونسية وتطوّرها على امتداد الفترة الحديثة. ويصدر هذا المجهود المعرفي الرصين عن فرضيّة مؤيدها البرهنة على أن ما عاينته تلك المؤسسة تدرّجا خلال الفترة الفاصلة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر من تحولات فارقة، لم ينتج عن عملية زرع خارجي لمؤسسة الدولة الحديثة، بقدر ما ترتّب على تحولات عميقة عاينها المشهدان الاقتصادي والاجتماعي التونسي، أفضت في الأخير إلى إكساب مشروع الدولة الترابية المراقبة لجغرافيتها المسيطرة على عمرانها جذورا محليّة عميقة.
يحدّد المؤلف الفارق بين طبيعة الدولة المخزنية الحفصيّة ورصيفتها الحديثة، مشدّدا على أن النجاح في خطة المركزة وتوسّع الأنشطة الزراعية خاصة بعد ضمور مردود التجارة الصحراوية وانتقال حركة التجارة العالمية من المتوسط إلى المحيط الأطلسي، فضلا عن بروز فئة "البلديّة" المؤازرة لمجهود دولة "البايليك" والمستفيدة منه على حساب منْظوري القبائل، هو ما شكّل على الحقيقة واقدا لبروز الدولة الحديثة المنسلخة عن دولة المخزن الحفصي المتّسمة بـ"تجميع الجموع"، في حين أعطت الدولة الجديدة مدلولا ترابيا للسيادة وأكسبت الالتزامات الضريبية طابعا فرديّا.
غاص المؤلف لتوضيح هذه الفكرة المنارة  idée phareفي التفاصيل التاريخية لأمد زمني طويل غطى الفترة الممتدة بين منعرج القرن السادس عشر، ذاك الذي عاين تحوّلا جذريا للدورة الاقتصادية العالمية، وإعلان "عهد الأمان" الذي شكّل من جانبه منعرجا جديدا تمثّل في إقرار المسطرة الضريبية ووضع حد نهائي لرواسب الدولة المخزنية التقليدية المحتكمة لمنطق المنازل الاجتماعية وما ترتب على ذلك من توسّع في الإعفاءات والامتيازات.
مجال البلدان مجال "العربان":
أخضع عبد الحميد هنية المقاربة الاجتماعية لنتائج عملية تفحّص دقيقة للمنظومة الضريبية، فتبيّن له أن التعارض بين ما وسمته مدونة الإتحاف بمجال "البلدان" و"الحواضر" ومجال "العربان أو النواجع" في القرن التاسع عشر، حاضر بجلاء في نظام الدولة الضريبي المعتمِد على التفريق بين "البلْدي" و"العرْبي" بإثقال كاهل هذا الأخير قياسا لما طُولب به الأول، في حين لم يعكس واقع النمو الذي عاينته الحواضر الوسيطية لإفريقية خلال المرحلة الوسيطة المتأخرة علاقة اقتصادية موصولة بفائض إنتاج الأنشطة الزراعية، ولم يعاين الأداء الضريبي تمييزا لسكان الحواضر على سكان البوادي، لذلك يخلُص المؤلف إلى أن ذلك التفاضل المتعارض مع منطق المسطرة الضريبية هو وليد الفترة الحديثة دون سواها.
حاول الكاتب التعمّق في سمك النسيج الاجتماعي من خلال رصد مميزات ما نعته بـ"التركيبة المدنية" والمجالات الخاضعة لتأثيرها مقارنة بالمجموعات القبلية والريفية. فقد احتلت الحواضر أنفع المجالات وأفضلها، حيث احتشد السكان منذ أقدم العصور على الساحلين الشرقي والشمالي للبلاد، بينما لعبت حواضر الدواخل دور محطّات الخزن والتموين على خطوط التجارة القوافلية وطريق الحج. ساهم مجتمع المدن في ربط البلاد بالدورة الاقتصادية المتوسطية محتكرا فوائض المبادلات التجارية، اعتبارا لتوفره على أفضلية تقنية (التعامل النقدي والتقنيات العسكرية والإدارية المتطوّرة). كما ضم مجتمع الحواضر نخبة وافدة مثلها الأتراك والأندلسيون والأعاجم من بين أسرى القرصنة ويهود القرنة القادمين من إيطاليا.
تمكّنت هذه الأوساط بعد ضمور موارد تجارة القوافل من التوغّل في دواخل البلاد وأريافها بغرض الاستفادة، عبر توسيع ممتلكاتها الزراعية وتملّك مجال "الموات" ومراقبة عمليات الإحياء والتوسّع في المساحات القابلة للاستصلاح من تطوير ريعها العقاري، فتوسّع بذلك المجال المراقب من طرف حضر مدينة تونس مع حلول القرن الثامن عشر ليشمل أراضي الحوضين  الأسفل والأوسط لوادي مجردة. وتكوّن منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعبر الحصول على العديد من الامتيازات الضريبية (الإعفاء من الأداء الشخصي وتخفيض الأداء على المساحات الزراعية "ماشية ملك البلْدية" )، ما وسمه عبد الحميد هنية بـ"مجال الرْعيّة" الذي شرّع حصول المنتسبين إلى المجال الحضري على امتيازات سياسية وضريبة لم يحض بها غيرهم.
تُوّجت مختلف هذه التحولات التي شملت البنية العقارية وفقا لما أكده المؤلف، باتّسام الواقع الحضري بهرمية صارخة أكّدت سيطرة مدينة تونس على باقي المجالات الداخلية، بدوية كانت أم حضرية. وهي وضعية فارقة تاريخيا لم يُكتب لها الاتساق إلا خلال الفترة الحديثة، علما أن واقع الحواضر قد اتّصف على الدوام بانفراد كل مدينة كبرى بخصوصياتها أو"أرطالها" (الفقهية والقضائية والثقافية) على حد منطوق المثل الشعبي.
ترتب على هذا الوضع بروز لافت لما وسمه المؤلف بـ"الفئات الأعيانية"، تلك التي تمركزت بقلب المدينة وتآلفت عبر شبكة علاقات مصلحيّة مع "بلْديتها" وذلك من خلال تشغيل نظام معقّد لتبادل المنافع سمح للوافدين الجدد في الأخير بالاستقرار بمركز المدينة وامتلاك رباعها وأصول الزياتين الواقعة بفحوصها القريبة فضلا عن مواراة موتاهم بمدافنها، الشيء الذي سحب على جميعهم صفة الانتساب الكامل لحضّرها مقارنة بجمهور "البرانية" أولئك الذين لم يستوطنوا على الغالب الأعم إلا مجال أرباضها.
شدّد المؤلف في المقابل وبخصوص مجتمع البوادي على أن التوزيع الجغرافي للمجموعات القبلية قد فرّق بين الجبالية (الشمال الغربي وسلسلة الظهرية) ومجموعات الوسط (كأولاد سعيد وجلاص والمثاليث والسواسي والمهاذبة ونفات) والقبائل الرحل الصحراوية (كغريب وأولاد يعقوب وبني زيد وورغمة)، مشيرا إلى طبيعة الحَرَاك الذي لازم هذه التجمعات والذي جعل من انتشارها الذي عكسته دفاتر الدولة لأواخر القرن السابع عشر حقيقة مرحليّة لا يصح تعميمها على الفترة التي سبقتها، معتبرا أن كل حفر في التطوّرات التي عاينتها تلك التجمّعات لا ينبغي أن يقنع بالإيديولوجية التي صدرت عن متقاسم خطابها، بل يحسُن مقاربة واقعها الدقيق طوال الفترة الحديثة من خلال التركيز على التحولات التي طالت الخليّة الأسرية والعلاقة بالمْلْكيّة باتجاه التوسّع في عملية التفريد وتراجع استقلال المؤسسات الجماعوية من خلال تعقّد المصالح المالية بين جهاز الدولة المركزية وفئة الأعيان المحليين (وخاصة المشايخ والهيئات التمثيلية لما وسم بـ"الرجّالة الكبار").
غير أن ما شكّل انقلابا حقيقيا، وإذا ما فهمنا جيّدا مقترح المؤلف، هو هيمنة الدولة المركزية على مجال المبادلات الداخلية بعد مرور تأمين انتصابها واتساقها المتصل بنظام ادخار سنوي للمواد الأساسية أو "العُولة" وهو نظام ضارب في القدم، من يد تجمعات قبائل الوسط والجنوب الكبرى لتتولاه الهياكل الردعية للسلطة المركزية. وهي فرضيّة عوّل عبد الحميد هنية في تركيبها على مفهوم "الأسواق الانفجارية" الذي شكّل محصلة للتحقيقات الميدانية الأنثروبولوجية لـ"فرنشسكو بني Francisco Benet  "، مبيّنا أن الفارق بين الواقع المحلي المغربي الذي عادت أهلية هيكلة مبادلاته الداخلية بالأساس إلى مؤسسات الولاية والصلاح، والواقع المحلي التونسي يكّمن في ارتباط تلك المهمّة الحيويّة تونسيا بحضور لافت للهياكل الردعية والإدارية لدولة البايليك، الشيء الذي حدّ من الأدوار التي كانت تلعبها الأسواق السنوية بـ"بوسديرة" شمالا أو توزر جنوبا وذلك لفائدة الأسواق الأسبوعية (كسوق الأربعاء الذي يحمل حاضرا اسم مدينة جندوبة وسوق الخميس عند مدينة بوسالم وسوق الأحد عند حوضي مجردة الأعلى والأوسط)، فانقطعت الأدوار الأمنية التي تولّتها سابقا تلك التجمعات القبلية وتدرّجت نحو الاستقرار والتعويل على الأنشطة الزراعية. فانسلخ بذلك عامة منظوريها "من [وضعيىة] الرعاة والتجار إلى [واقع] المزارعين [المتنافسين] على اقتناء الأراضي وإحياء مواتها".
طريق المركزة قراءة في مسار:
تتوفّر العروض المقترحة ضمن هذا القسم من الدراسة على مجموعة من الملفات عمل الكاتب على التوليف بينها، متقصّيا مسألة جوهرية شكّل مسار المركزة السياسية قطب الرحى ضمنها. فقد تم التعرّض تباعا لعدة إشكاليات حسّاسة على غرار أزمة الدولة المخزنية الحفصية والأسباب الكامنة وراء فشل مشروع مغامرة الدويلة الدينية الشابية، ومسار إعادة بناء المركزة السياسية من خلال إرساء المؤسسات العثمانية، وتوفّر موارد حقيقية تُسعف الدولة في مواجهة مصاريفها، كتنشيط القرصنة والدفع باتجاه تطوير المبادلات التجارية وتوظيف توطين الوافدين الأندلسيين بغرض توسيع الأنشطة الزراعية والحرفيّة والعمل على ضبط الحدود مع أتراك طرابلس والجزائر. ليواصل المؤلف تفكيك مسار المركزة السياسية على أيام المراديين من خلال التشديد على إعادة تنظيم العلاقات مع الوسط القبلي باتجاه هيمنة الفئات الحاكمة وضمور آليات التواصل التقليدية المعوّلة على المصاهرة والحلف والإقطاع. على أن يخصّص بقية العروض للتدقيق في تجربة السلالة الحسينية تلك التي توصّلت وعبر مسيرة طويلة مضنية إلى إرساء "دولة البايليك" التي عوّلت على تشغيل آليات ولاء وتبعية مخصوصة، شكّلت ما نعته المؤلف بـ"الطبقة الحاكمة"، تلك التي ضمت شرائح عديدة من وجهاء الحواضر كما الأرياف والبوادي، أوكلت لها الدولة وعبر نظام معقّد للمحاسبة استغلال ممتلكاتها العقارية (أو هناشرها) وجمع ريعها الضريبي عبر التوسّع في نظام الالتزام.
دقّق عبد الحميد هنية بحرفيّة عالية في مضمون التطوّرات التي عاينتها منظومة الاستغلال الزراعي عبر تملّك الأراضي البيضاء أو "الموات". كما توسّع في التعرّض للتحولات الفارقة التي طالت النظام الضريبي وتطوّر المبادلات الخارجية والأطراف المستفيدة منها تلك التي شكّلت ما وسمه الكاتب بـ"الكتلة الأعيانية". لينتهي به المطاف عند مأزق التحديث الذي فرض على دولة البايليك الحسيني التخلّي على سياسة الاحتكار التجاري والقبول بمنطق المنافسة مع الشركات الأجنبية، وهو ما تسبّب في الحد من موارد الدولة وألجأها إلى استعصار المنتجين الزراعيين والحرفيين، خاصة بعد إمضاء معاهدة الثامن من أوت 1830 التي قضت بتخلّي الدولة عن جميع الاحتكارات التجارية، الأمر الذي بلور سياقا تاريخيا غير ملائم بالمرة للدخول في حزمة إصلاحات عسكرية وضريبية ودستورية، مكنت من انبثاق مدلول حقيقي لما وسمه المؤلف بـ"الفرد الرعية"، حتى وإن لم تكن البلاد قادرة موضوعيا على تحمّل الحصيلة الـمُكلفة للمصاريف المترتبة عن تلك الإصلاحات.
تلك محصّلة هذا الكتاب الجديد الذي تمت صياغته في لغة عربية تقصّت البساطة وتبليغ المعنى، وإن لم تخل من حضور إلغاز شمل العديد من المصطلحات والمفاهيم التي أثارت ولا تزال سجالا كبيرا بين المؤرخين المختصين وغيرهم من المولعين بكتابة التاريخ. على أن العروض المتّصلة بمختلف الملفات التي أشرنا إليها تطرح من جانبها وفي تقديرنا الخاص العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى مزيد توضيح. 
فبقدر ما كشفت الملفّات المتّصلة بالجوانب العقارية وخاصة موضوع التوسّع في استغلال "الموات" وتطوير النظام الجبائي باتجاه توحيد المسطرة الضريبة وما ترتب على ذلك من انتقال لافت لواقع المجتمع التونسي خلال الفترة الحديثة، عن باع المؤرخ وقدرته الفائقة منهجا وتصوّرا على تعديل القراءة المبذولة للتاريخ الحديث التونسي، بقدر ما تشي بقية الملفات بتوجّه آثر التجديف في اتجاه آحادي مُتحاشيا الدخول في نقاش معرفي بنّاء مع بقية المنتسبين إلى ذات التخصّص، تونسيين كانوا أم غير تونسيين.
فطرحُ إشكالية سياق بناء الدولة بالبلاد التونسية مسألة جوهرية اخترقت في تقديرنا ولا تزال بحوث مختلف أجيال الجامعين التونسيين المختصّين في التاريخ الحديث، كما في التاريخين الوسيط أو المعاصر، وهو ما لا نجد صدى له ضمن هذا المقترح. كما أن فتح مجال المقارنة بخصوص مسار تشكّل المركزيتين الترابيتين التونسية والمغربية، توافقا مع قناعات المؤلف التي كرّسها النشاط المكثّف للمخبر الذي يديره بكثير من التوفيق منذ ما يقرب عن العشر سنوات، تفّرض منطقيا التعامل بإنصاف كلما تعلّق الأمر بملفات حيويّة تحيل على إشكاليات جديدة على غرار الصلاح والهامشية وتاريخ الهياكل الديمغرافية على سبيل المثال، قصد الوقوف عند نتائجها وتثمين المجهود المعرفي الذي بذله أصحابها في إعادة صياغة المقترح المعرفي لتاريخ مجال المغارب عامة والبلاد التونسية تخصيصا.
كما أن التصوّرات المقترحة بخصوص الممانعة القبلية ونتائج عمليات استحرابها الكارثية، لم تستند، ومثلما شدّدت عليه الآراء الواردة ضمن هذا الكتاب، بشكل مطلق على تشغيل آليات القمع في حق الدولة والدفع باتجاه الشحناء والتباغض في حق سكان المدن، فتوافق القراءة المقاصدية للأحكام الشرعية مع ما تفتّقت عليه عارضة صائغي أعراف التونسيين والمغاربة أو "أعمالهم"، تبرهن بما لا يدع مجال للشّك عن فاعلية إيديولوجية "التوبة" الداعمة للاستقرار وتطوير الأنشطة الزراعية ونشر العافية، وهو ما لم يتعارض مطلقا مع احتياجات الدولة الترابية الرامية إلى احتكار العنف كشرط محوري للسيطرة على المجال وإخضاعه لمضمون المسطرة الضريبية طوال الفترة الحديثة.
ناقش عبد الحميد هنية التصوّرات التي صاغها محمد الهادي الشريف بخصوص التوجّهات "التقدمية" لفكر حمودة بن عبد العزيز، وهي توجّهات بدت له قريبة من الممارسات الفيزيوقراطة الداعمة للأنشطة الزراعية، وذلك من موقع مفارق شدّد على التوجهات النفعية لفئة الأعيان الحضريين، وهو ما لم يكن الأستاذ الشريف فيما نعتقد  ذاهلا عنه، إنما شدّته إلى آراء وزير على باي (1759 - 1782) الرغبة في تقصي توجّهات جانب من النخب التونسية التقليدية المتفاعلة إيجابا مع مسار التحديث غربا. 
هذا الأمر هو الذي عاد إليه مؤلف هذا الكتاب ليضعه موضع تساؤل لما قدّر أن تدرّج الدولة في تمكين منظوريها من الحصول على وضعية "الرْعيّة" عبر إقرار ملكية أعيان الحواضر لعقاراتهم وإخضاعهم لدفع ضريبة العشر، ثم توسّعها في ذلك التوجّه ليشمل لاحقا الفئات المنتجة من سكان الدواخل والبوادي - ذلك الواقع الذي عكسته مختلف المحطات المفصليّة المتصلة بمراجعة أنظمة الأداء الضريبي (كإصلاحات 1726 - 1727 و 1801 – 1802  وإقرار الضريبة الشخصية أو "الإعانة" سنة 1856)- هو ما غيّر على الحقيقة واقع النسيج الاجتماعي التونسي في العمق، ناقلا "جموعه" الغائمة الهلامية إلى امتلاك مدلول دقيق للفرد ثم للشعب في انتظار الإقرار بحقه في المواطنة.  لذلك يعتبر المؤلف أن عراقة هذا التوجّه بل أسبقيته على الأفكار التي بشّرت بها الثورات الحديثة وفي مقدمتها الثورة الفرنسية طبعا، حقيقة لا مجال للطعن فيها. إلاّ أن ما يعكسه الواقع التونسي حاضرا من احتداد للتجاذب بين مشروعين مجتمعيين على طرفي نقيض يمثّلهما دعاة المحافظة والتأصيل على شاكلة بلاد المشرق من جانب، والمدافعين على مسار التحديث على شاكلته الغربية من الموصومين عنتا بـ"الفرنسة" في الجانب المقابل، يطرح من ناحيته وبشكل حارق جملة من التساؤلات بخصوص مدى وجاهة الإقرار - وفي مقاربة مسار المركزة وبناء نموذج الدولة الترابية الحديثة تونسيا- بالطابع المهيمن للأدوار التي عادت للفاعلين المحليين دون غيرهم من الفعلة الآخرين؟                                  







2 commentaires:

  1. J'ai lu avec attention ce beau livre du Professeur Abdelhamid Hénia depuis presque deux mois. Personnellement, je considérée ce livre comme la continuité de ce qui été fait par le Professeur Mohamed Hédi Chérif dans son ouvrage intitulé "Pouvoir et Société dans la Tunisie de Houcine Ben Ali".
    Selon les analyses de l'auteur ont peut dire que la fondation de l'Etat tunisien au sens moderne du terme a commencé depuis la fin du 16ème et s'est accéléré avec l'installation de la dynastie Housainite sur le trône de la régence de Tunis. Cette émergence de l'Etat moderne était faite via la territorialisation de l'espace et via la fiscalité. Ces deux pilés du régime ont été augmenté par le rôle des élites sociales. Mais la question qui se pause actuellement est comment comprendre la quasi-absence de l'Etat dans la gestion des affaires publiques après plus de 2 siècles d’existence ? Est ce que la situation post-révolutionnaire peut aider a réinstallé cet Etat centralisé ou connaissant nous un nouveau modèle ?

    RépondreSupprimer
  2. Je suis de votre avis surtout lorsque vous affirmez que la lecture proposée par le Pr. A. Hénia s'inscrit dans la continuité des travaux de recherche historique de Si Hammadi et surtout de sa thèse consacrée à la Tunisie Huseïnite; l'auteur étant lui aussi fiscaliste et spécialiste d'histoire sociales. Mais beaucoup d'eau a coulée depuis sous les pans et ce livre vient à point nommé pour affiner le topo et ajouter sa propre pierre à l'ouvrage. Ceci étant dit, une présentation du livre sera donnée par moi même à l'espace Art Libris situé au salammbo le vendredi 8 juin à 18h30. Vous pouvez, et si vous le souhaiterez, profiter de l'occasion pour poser cette pertinente et bien actuelle question à l'auteur qui se fera, je ne doute pas, un plaisir particulier à éclairer votre lanterne.

    RépondreSupprimer